بيقول شعر للسمك.. «عم محمد» أشهر تاجر أسماك بأبوتيج… “شغلتنا كلها شقا والسمك رزق ربنا وأهم حاجة الضمير”

على كرسي خشبي قليل الارتفاع تراه جالسًا بجلبابه البلدي وسط حلقة السمك بمدينة أبوتيج تحوطه الأسماك التي تلهو بداخل طشوط المياه، وعلى يساره ميزان معدني قديم الطراز ذو كفتين ليزن أسماكه لكل قادم يبتاع منه.
السمَّاك والمدينة
إنه العم محمد فاروق الجَلَب وشهرته “محمد فاروق السماك” أحد أشهر تجار الأسماك بمدينة أبوتيج، من عائلة الجلب ويبلغ من العمر 52 عاما يقطن شارع السماكين بالمدينة.
حين تدخل مدينة أبوتيج تشعر أنك في مدينة التراث مدينة مختلفة ومميزة، فهي بطبيعتها مدينة تجارية يقصدها الكثيرون من أبناء المحافظة على اختلاف مراكزهم حيث السلع المتنوعة والأسعار الهادئة، ولهذا بالكاد يمكنك المرور في الكثير من شوارعها بسبب كثرة الباعة وبضائعهم المتراصة والمنتشرة في كل مكان، وما إن تدخل حلقة السمك إلا وتفوح رائحة الأسماك بسماء وأرض المكان وترى الباعة متراصين حول بعضهم تتداخل أصواتهم فكلٌ ينادي لبيع أسماكه محاولا جلب المزيد من الزبائن، هذا ممسكٌ بسمكةٍ ينظفها وذاك ممسك بيدٍ كوب من الشاي في برهة للراحة واليد الأخرى يلتصق بها بعض قشور الأسماك التي لم يستطع الماء انتزاعها عند غسلها ولم تغب عنها تلك السيجارة البيضاء بتبغها المعتاد لديه.

تاريخ المهنة
مائة وخمسون عاما هو تاريخ العائلة مع رحلة صيد الأسماك وتجارتها كما قال العم محمد، وأربعون عاما ويزيد وهو يزاول مهنته المتوارثة عن الآباء والأجداد في تجارة الأسماك،” كنت في البداية مع والدي ثم استقليت بذاتي”، هكذا علق التاجر الشهير ليروي بداية رحلته.
واستأنف حديثه ساردًا البداية بقوله: “الجد كان صياد، الجدود كانت بتصيد في البحر في المراكب الكبيرة زمان وبقى عندنا خبرة في السمك، وولد عمي بتوع الملوحة برضو نفس الكلام”، فهي مهنة متوارثة توارثها الآباء والأجداد، واستكمل قائلا: “احنا طلعنا لقينا شغلتنا كده، جدي أبو والدي كان صياد وأبويا اتجه لبيع السمك وأعمامي كلهم صيادين والعيلة كلها صيادين”، وحاليا لا نصطاد السمك نحن نشتريه من الصيادين من أماكن عدة مثل النخيلة والمطيعة ومجريس وساحل سليم ومن مراكز تجميع الأسماك ومنها مراكز في أسيوط مراكز في طما.
الحلم ورضاء الأب
حصل العم محمد على شهادة ثانوي فني صناعي قسم تركيبات ميكانيكا ولم تكن رغبته استكمال مسيرة العائلة في عالم تجارة الأسماك ولكن نزولا على رغبة والده الذي يقدره كثيرا قرر استئناف الرحلة فرضاء والده كان لديه أهم، وبسؤاله هل حاولت تغيير مجال العمل وتتجه لآخر؟ رد قائلا: “والله أنا حاولت اتجه بس رغبة الوالد، أنا كنت أكبر إخواتي فبقيت معاه على طول”.
وعن حلمه الذي لم يكتمل في امتهان مهنة أخرى رد على وجه السرعة رغم عمق التفكير قائلا: “أنا كان نفسي أبقى بعيد عن السمك مهنة كلها تعب شوية الصحيان بدري والميه والسقعة والشوك والتنضيف، أنا اتعرض عليا وظيفة في البترول مرضتش بيها عشان أحافظ على رضا أبويا وأنفذ طلبه ومش ندمان خلاص ده نصيب كل حاجة نصيب”.
رحلة يومية
عجيبٌ هو حال الأسماك بداخل حلقة السمك ووسط السماكين، تراها تتلاعب بداخل طشوت المياه هذا يقفز للخارج ويهرولون خلفه لإعادته وذاك ساكن يمشي رويدا على أطراف المياه بداخل ذات الطشت والأمور تسير وكأنهم مازالوا بموطنهم دون اغتراب، وإذ فجأة بقرموط كبير أسود اللون يقفز لأعلى ثم يلقي بنفسه على الأرض حتى أنه رطمني في قدمي وأنا أحاور العم محمد وكأن الأسماك قد اعتادت الباعة والزبائن فصاروا يلهون ويلعبون وسطهم وكأنهم لازالوا بقلب النهر.
بعد توقف لبرهة حديث مع أحد المشترين عاود العم محمد حديثه موضحا رحلته اليومية في الحصول على الأسماك بقوله: “أنا كل يوم بصحى الساعة خمسة الصبح ممكن الواحد يأجزله يوم أو يومين في الشهر، وبروح اتسوق السمك من على البحر وفي أيام بنلف على الصيادين نجيب منها السمك وبنروح مراكز تجميع الأسماك في أسيوط ساعات احنا بنروح وساعات في ناس بتجيب لنا، يعني لما يبقى السمك شاحح شوية بندورها لفة كده”.
اختيار الأسماك
انتهت مرحلة رحلة العم محمد وإخوته مع استيقاظ الفجر والذهاب للحصول على الأسماك وجاء موعد المرحلة الثانية من مراحل طقوس مزاولة المهنة ألا وهي مرحلة الفرز وهنا يوضح السمَّاك، “باخد البيعة وبفرز السمك الكبير وحده والصغير وحده والبياض وحده والقراميط وحدها وقشر البياض وحده واللي ميعجبنيش مباخدوشي، هعمل ايه طيب ما لازم آخد الحاجة النضيفة عشان ده ضمير وعشان الزبون بتاعي يجي عندي تاني”.
وبعد انتهاء مرحلة الفرز ومع دقات الثامنة أو التاسعة صباحًا تبدأ مرحلة العمل بداخل حلقة السمك وحركة البيع والشراء مع الزبائن الذين اعتادوا أسماك العم محمد ومذاقها الشهي المختلف.
صعاب وصبر
انسجام صوت طرقات الميزان مع كف يد سمَّاك المدينة الشهير تصنع أنغام سيمفونية خاصة اكتسبت ذوقها المميز من تآلف خاص بين رجل ومهنته عبر عشرات السنين، ولأن لكل مهنة صعابها كان لابد من سؤاله عن أكثر ما يؤرقه في يوم عمله ليعلق قائلا: “المجادلة مع الزباين أكتر حاجة في ناس بتبيع سمك في السوق مش كويس وأنا ببيع كويس بقول للزبون الكيلو بكذا يقول لي ما برة بيبيعوه أرخص طب ما الأرخص ده وحش ومهما تقنع في الزبون مفيش فايدة غير كمان في ناس برضو بتلعب في الموازين يعني الخمسة كيلو تلاتة ونص أو الخمسة أربعة”.

لم تكن تلك الصعاب فحسب بل الاستيقاظ مبكرًا وخاصة في غسق فجر الشتاء القارس وكذلك ويلات اختناق أرجلهم بأحذية الصيف، “لبْسِنا الكزلك بيأثر على أقدامنا في الحر بنلبسه بس مش بندخل جوة الميه”.
ولكن تُرى لم كان صبر العم محمد على صعاب مهنة لم تكن باختياره يوما؟ وهنا اختصر الإجابة في جملة واحدة، “والله الحمد لله معاناش مهنة غيرها”
المتحكم
صعود وهبوط وارتفاع مفاجئ في الأسعار في كثير من السلع والمنتجات هذا هو حال الأسواق حولنا ولم تسلم الأسماك من موجة الارتفاع وهنا علق سمَّاك المدينة حول مسببات الارتفاع في سوق السمك قائلا: “ساعات الصيد بيبقى قليل فالسمك يبقى غالي عشان يعوض”
المخاطر
لكل مهنة مخاطرها فيا تُرى هل تسللت المخاطر لعالم العم محمد؟ وهنا رد بإجابة قاطعة “مفيش حاجة مؤذية الحمد لله”
رزق ومضايقات
تحيات ودعوات متبادلة بينه وفريق العمل وبين المارة، فالعاملين معه إخوته وأبناء إخوته وليسوا غرباء، “دول إخواتي إحنا تلات إخوات مع بعض”، وتراهم جميعم في دائرة عمل منظمة منسجمة هذا يمسك بساطوره منظفا للأسماك وهذا يزن وهذا يغلف وهكذا تدور الحلقة، ولكن هل رزق تلك التجارة كافيا لعدة بيوت مفتوحة هذا هو مصدر رزقها الوحيد؟، هنا جاء رد العم محمد “ماشية والحمد لله بس والله احنا كنت نتمنى نبقى في مهنة غير السمك فيها محاربة واعرة يعني تقول للزبون بمية زميلك اللي قبالك أو اللي جنبك يبيع بتمانين بس سمك وحش ولعب في الميزان والموضوع ده بيحاربنا في لقمة عيشنا، ومفيش خساير الحمد لله الأرزاق بتاعت ربنا، أنا زبوني معروف والحمد لله، يعني عم الحاج جاي من المطيعة ياخد مني سمك هنا … ليه؟ لأن بصي يا أستاذة وأشار إلى السمك والميزان قائلا: “أهم حاجة ده”، وأشار إلى مشترٍ آخر وقال: “الراجل ده ليه خمس أيام بيجيني كل يوم عايز سمك مبيلاقينيش بيمشي ميشتريش من حد”
تنوع وإقبال
أنواع الأسماك عِدة ورغبات الزبائن مختلفة ولهذا تتنوع الأسماك التي يبيعها وتتفاوت أيضا فترات الإقبال، “ببيع بياض، بلطي، قراميط، قشر بياض، واللي عليه إقبال أكتر البلطي”.
لم تخلو أنواع الأسماك التي تحيط سمَّاك المدينة من القراميط والتي كَثُر الحديث حولها حتى إن البعض هجر أكلها، أما العم محمد فله حديث آخر بخبرة السنوات الطوال فأوضح الأمر بقوله: “القراميط بتاكل قرف النيل ومش كل القراميط، قراميط الترع هي الوحشة بتبقى معروفة البلدي من غيرها القرموط اللي يتاكل تكون بطنيته بيضا أو صفرا والتانية لونها أسود غامق كده”.
أما عن فترات الإقبال فتحدث موضحا، “والله في مواسم يعني شهر رمضان بيبقى في إقبال على السمك وصيام الإخوة المسيحين بيبقى برضو بيبقى في إقبال على السمك”
الحديث يسير في تناغم كأنه يروي في قصة رحلته حكاية من حكايات الزمن القديم وإذ به يوقف حديثه فجأة ويُمسك بمشط سمك ويبعثه مع ابن أخيه لسيدة مارة تبحث عن مساعدة ثم عاود حديثه قائلا: “بتريح الدنيا شوية لما الإخوة المسيحيين بيفطروا هو السمك رزق بتاع ربنا، السمك لما بيبقى كتير بيبقى سعره هادي شوية ولو قليل بيبقى سعره غالي”.
الأحلى
وكما أن هناك الصعب فهناك الجميل بداخل كل مهنة، وهنا علق العم محمد “أنا عايز إن أحلى حاجة ربنا يهدي سر البلاد والعباد”.
استثمار الذرية ورفض التويث
لم يستطع شقاء العمل أن يُدْخل العم محمد في دوامة الحياة ويُلهِهِ عن توفير حياة تعليمية ذات مستوى عالٍ لأبنائه، “معايا ودين وبنتين ابن كلية آداب قسم علم نفس وبنتي تانية كلية خدمة اجتماعية وأخرى ثانوي فني وابني الصغير رايح أولى ثانوي”، ولكنه يرفض تماما إقحام أي من أبنائه في مهنته واستكمال مسيرة مهنة الآباء والأجداد كما أنهم هم أنفسهم يرفضون ذلك، فبتوجيه السؤال إليه “ناوي تخلي حد منهم يكمل معاك في حلقة السمك؟” رد ملوحا بإصبعه “No No No” محدش منهم عايز يبقى معايا وحتى لو حد منهم عايز يبقى معايا أنا مش هخليه يبقى معايا دي شغلة كلها شقا وأنا مش هخلي ولادي يعيشوا الشقا اللي عشته صحيان بدري ممكن تشطبي الضهر ممكن تشطبي العصر ممكن تشطبي العشا حسب تساهيل ربنا”.
مطلب وحُلم
اختتم سمَّاك المدينة الشهير حديثه بمطلب وحلم، “أنا بطلب من المسئولين يشوفوا البياعين اللي هي بتبيع خارج تجمعات الأسماك في ناس بتبيع في الشوارع بتبيع سمك غير صالح للاستهلاك الآدمي الناس دي بتحاربنا لأنهم بيجيبوا سمك رخيص ميت والناس معرفاش أهو كله سمك مثلا واحد بياخد له 150 جنيه اليومية بتاعته شقيان فيها ياخد حاجة ياكلها ولا ياخد جاجة يرميها؟”
وعن حلمه قال: “بحلم ربنا يسترني مع ولادي ويهدي سرنا كلنا مع بعضينا ويحببنا في بعض وربنا يبعدني عن هذا المكان وعن هذه المهنة ولو لقيت حاجة تاية هتوكل على الله”
ثم قال بطريقة مازجة هي في حقيقتها أمنية حقيقية يشع بريقها أمام عينيه بين آونة وأخرى طوال الوقت ويتمنى أن يغمض عينه ويفتحها ويجدها محققة، “أنا عايز أسافر استجم برة نفسي كده أزور سيدنا النبي وشكرا”.